ما سر تبادل إيران وتركيا أدوارهما في المنطقة والعالم؟ لماذا تدافع تركيا عن إيران أكثر من الإيرانيين أنفسهم في محافل دولية؟
لماذا أعلنت إسرائيل رئيس المخابرات التركية “رجلاً غير مرغوب فيه”؟
كيف وجهت إيران العمال الكردستاني وجناحه الإيراني لحرب تركيا؟
كيف حلت إيران مشكلتها الكردية بمساعدة المخابرات التركية؟
من أين جاءت المعلومات الاستخباراتية الخاطئة في قضية قصف الجيش التركي للمدنيين الأكراد؟
من ألقى طوق النجاة للعمال الكردستاني بعد أن كاد يغرق ويموت؟
لماذا قدم الإعلام الموالي التنصت على جواسيس إيران وكأنه تنصت على أردوغان؟
ما سر تغاضي حكومة أردوغان عن التجسس الإيراني في تركيا؟
ما هي أنشطة المخابرات الإيرانية على الأراضي التركية؟
لماذا ساعدت المخابرات التركية عميلاً إيرانياً مطلوباً دولياً للفرار؟
ما هو مصير رجال المخابرات التركية بعد تسليمهم حسين حرموش للأسد؟
ما هي حقائق وأكاذيب التخطيط لاعتقال أردوغان بعد رئيس المخابرات؟
ما هو التنظيم الذي وصفه أردوغان بـ”الكيان الموازي” قبل الخدمة؟
لماذا نفى كبير مستشاري أردوغان تخطيط الخدمة لاعتقال أردوغان في 7 شباط 2012، ثم تراجع عن ذلك بعد بدء عمليات الفساد نهاية عام 2013؟
كبير مستشاري أردوغان: هناك أطراف تسعى للإيقاع بين الخدمة وحزب أردوغان ؟
مَنْ ولماذا حال دون تطهير المخابرات الوطنية من عناصر أرجينيكون كما كان في صفوف الجيش؟
كيف جعلت إيران تركيا معزولة عن العالم عبر تلطيخها بالفساد المالي والأخلاقي والإرهاب؟
أردوغان يثير نقاشاً حول المعاهد التحضيرية الخاصة (درسخانه) عمداً للتخلص من البقاء تحت الانهيار الثلجي المحقق (ملفات الفساد)..
هل فوجئ أردوغان بملفات الفساد أم كان على علم بها؟
متى اعتزم أردوغان القضاء على حركة الخدمة؟ بعد تحقيقات الفساد أم قبلها؟
ما هي ضروريات أردوغان للاتفاق مع الدولة العميقة والتيار الإيراني في تركيا؟
لماذا أغلقت محاكم أردوغان قضية التجسس الإيراني ضد تركيا مع قضية الفساد؟
ما سر الإفراج عن الجواسيس الإيرانيين واعتقال جميع الشرطيين الملاحقين لهم؟
لماذا أمر أردوغان بمصادرة شركات تابعة للخدمة وتعيين وصاة عليها موالين لإيران؟
كيف تبادلت إيران وتركيا أدوارهما فباتت الأولى سلمية والثانية إرهابية؟
لماذا يصف أردوغان إيران بـ”بيتي الثاني” ورئيس المخابرات بـ”كاتم أسراري”؟
ما سر هذا الانحياز الكبير لـ”تركيا الجديدة” لإيران في كل القضايا، رغم أنها أكبر حليف لنظام الأسد الذي يحاول أردوغان إسقاطه؟
كيف يمكن لأكبر ثلاث عمليات صنعتها المخابرات التركية، وهي عملية السلام مع العمال الكردستاني، والسياسة الخارجية الخاصة بالأزمة السورية، والحرب الموجهة ضد حركة الخدكة، أن تؤدي إلى تطويق تركيا وتحرير إيران من أثقالها؟
كيف تنجح القوى الكبرى في استهلاك طاقة العالمين السني والشيعي عبر خلق صراعات طائفية؟
تعالى نحاول مع بعض نجاوب على هذه الأسئله
في خضمّ حرب المعلومات الهائلة في العصر الحديث قد يتعذر للبعض، بل يستحيل أحياناً، الوصولُ إلى الحقائق. إذ تمكّنت الإنسانية من ابتداع أساليبَ وطرقٍ كفيلةٍ بتشويه الحقائق وقلبها، ليس عن طريق كتمانها وإخفائها عن الناس، بل عبر عرضها أمام أعينهم عرضاً مباشراً، لكن مع تغليفها بكمية كبيرة من المعلومات الصحيحة، وتوزيعِ المعلومات النوعية المراد إيصالها إلى المخاطبين فيها بمهارة فذّة. وإلا فالأكاذيب لا قوام ولا دوام لها لو لم تستند ولو إلى جزء من أجزاء الحقيقة. قد تكبر الأكاذيب والخزعبلات بعد اختلاقها مع مرور الأيام والشهور والسنوات، مثل كرة الثلج التي تنحدر من أعلى الجبل صغيرةً ثم تكبر شيئاً فشيئاً، فتبدو وكأنها لن ينالها الفناء والزوال أبداً، لكنها إذا ما تعرّضت لأشعة شمس الحقيقة أو اصطدمت بجدارها الراسخ فإنها ستتحطّم وتتلاشى بلا شكّ. حيث إن طبيعة الحقيقة تأبى إلا الظهور بجلاء ولو كره الكارهون
ولأن الإنسان معتلّ بالنسيان، فإنه يفشل في كثير من الأحيان في تحليل الأحداث، خاصة إذا كانت معقدة أو إذا عجز الإنسان عن الربط بين مقدماتها ونتائجها.
في هذا المقال سأحاول قدر المستطاع أن أعيد إلى أذهانكم أهمّ الأحداث التي شهدتها تركيا والمنطقة في السنوات الست الأخيرة، في سبيل محاولة فهم أبعاد وأسباب الأزمات الراهنة، علماً بأن المعلومات الخاصة بهذه الأحداث ليست “سراً”، بل يمكن الوصول إليها بسهولة، فهي موجودة على الإنترنت، وبصفة خاصة في موقع قناة الجزيرة ووكالة أنباء جيهان التركية وموقع “زمان عربي”. وأعترف بدايةً بأن هذه الجولة في التاريخ القريب قد تكون طويلة تتطلب نفساً طويلاً، لكنها ضرورية لنفهم واقعنا المرير ونتعلم من أخطاء الأمس ونخطّط لمستقبل أفضل.
دفاع فيدان عن إيران أكثر من الإيرانيين أنفسهم في محافل دولية
كانت الدول الكبرى تبذل جهوداً جبارة لوقف إنتاج السلاح النووي الإيراني في عامي 2009 – 2010. وكان “هاكان فيدان” هو من مثّل تركيا في الاجتماعات المنعقدة في فيينا في هذا الإطار. ولما لاحظ أعضاء الوفد الدولي المشاركون في هذه الاجتماعات دفاع فيدان عن إيران أكثر من الإيرانيين أنفسهم شعروا بحيرة كبيرة، حتى أنهم سرّبوا حيرتهم هذه إلى بعض وسائل الإعلام، كما قرأناه في صحف محلية ودولية حينها. وكان رئيس الحكومة التركية آنذاك رجب طيب أردوغان أسند فيما بعد إلى فيدان مهمة رئاسة المخابرات التركية. وبعد ذلك رأينا أن إسرائيل بدأت تتهم فيدان بـ”موالاة إيران”، وتصفه بـ”نصير إيران”، انطلاقاً من دفاعه المفرط عن القضايا الإيرانية في الاجتماعات والمحافل الدولية. بل اتهمته إسرائيل بالعمالة لإيران بشكل علني. لكن كتب ممثل جريدة “حريت” التركية في واشنطن الكاتب الصحفي المعروف “تولغا تانيش” أن هذا الاتهام مصدره الأصلي ليس إسرائيل بل أمريكا، إذ تنبّه وكالة الأمن القومي الأمريكية (NSA)، في تقرير لها، إلى علاقات فيدان بإيران، وتشير إلى إعطاءه المعلومات الحساسة التي جمعتها أمريكا وإسرائيل إلى إيران.
ولا بد أن نسجل هنا أن الإعلام الموالي للحكومة التركية كان يركز في أخبارها وقتها على إعلان إسرائيل السيد فيدان “رجلاً غير مرغوب فيه”، لكن دون التطرق إلى سببه، بهدف تلميع صورته في نظر الفئات المحافظة عبر تقديمه معارضاً لإسرائيل. وبما أن السياسات التي اتبعتها تركيا خلال السنوات الأخيرة قادتها إلى “الحاضنة الإسرائيلية والأطلسية” مجدداً في الوقت الراهن، فإنه يتبين أن معارضة إسرائيل لفيدان كانت صورية شكلية، نظراً لأن سياسات البلدان يتم تحديدها على ضوء المعلومات التي يقدمها جهاز مخابراتها دوماً.
وقد يقول قائل بأن دفاع فيدان المستميت عن إيران وشغلُه بعده منصب رئاسة المخابرات كان من قبيل الصدفة أو أن دفاعه هذا كان يتطلبه موقف تركيا في ذلك الوقت.
“الاتفاق بين إيران ومنظمتي بيجاك والكردستاني ضد تركيا“
لكن إذا عدنا إلى عام 2007 سنلاحظ أن أردوغان كان وقّع مع الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت جورج بوش على “اتفاقية تبادل المعلومات المخابراتية” بين البلدين. وبموجب هذه الاتفاقية كانت واشنطن تتبادل مع أنقرة المعلومات المخابراتية الخاصة بمنظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية. وفي الوقت الذي شنّت فيه منظمة “بيجاك” التي تعتبر امتداد العمال الكردستاني في إيران حرباً موسعة على الأخيرة دون أن توقف حربها ضد تركيا، أعلن رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني علاء الدين بروجردي فجأةً في مؤتمر صحفي إلقاءَ بلاده القبض على مراد كارايلان، الرجل الثاني في العمال الكردستاني. ونقلت محطة “تي أر تي” التركية الرسمية عن السلطات الأمنية الإيرانية تأكيدها لصحة الخبر في شهر أغسطس/آب من عام 2011. فضلاً عن أن بولنت أرينتش نائب أردوغان في ذلك الوقت كان أكد صحة هذه المعلومات. وبحسب المزاعم، فإن المخابرات التركية قدّمت المعلومات التي حصلت عليها من حليفها الأمريكي إلى إيران، ولعبت دوراً مهماً في قبضها على كارايلان نائب زعيم العمال الكردستاني عبد الله أوجلان المسجون في تركيا. لكن محطة تي أر تي سحبت خبرها هذا في وقت لاحق، كما حاولت إيران إخفاء هذا الأمر. ومع أن المخابرات التركية لم تكذّبه ولم تؤكد صحته، لكنها قالت خلف الكواليس للصحفيين العاملين في العاصمة أنقرة إنها مَنْ ساعدت إيران في القبض على كارايلان. وحقيقةً غاب كارايلان عن الأنظار بضعة أسابيع ولم يظهر على شاشة أية قناة تابعة للحزب.
“إيران تحلّ مشكلتها الكردية بمساعدة المخابرات التركية“
حسناً فما الذي حصل بعد ذلك؟ اتفقت إيران مع كارايلان، فأطلقت سراحه مقابل وقف هجمات منظمة بيجاك ضدها. وبهذه الطريقة حلّت إيران مشكلتها الكردية بمساعدة المخابرات التركية، وانتهت الحرب التي كانت تستهدفها منذ سنين. فماذا عن تركيا؟ بعد هذه الحادثة، أقلعت أمريكا عن تبادل المعلومات الاستخباراتية مع تركيا لمدة طويلة، بحجة تزويد الأخيرة إيرانَ بالمعلومات الاستخباراتية الأمريكية.
وعلى ضوء هذه المعلومات التي يمكن أن تجدوا خلاصتها في موقعي “الجزيرة” و”وكالة جيهان” التركية ومواقع أخرى، هل يمكن الزعم بأن نجاح طهران في تسوية أزمتها الكردية بمساعدة المخابرات التركية مجرد صدفة؟ خاصة إذا علمنا أن إيران التي كانت تقدم الدعم للعمال الكردستاني منذ سنوات في إطار صراعه مع تركيا؛ العدو التقليدي لها طيلة التاريخ، والتي أصبحت في موقف حرج بسبب الأزمة السورية خاصة، وجّهت منظمة بيجاك بعد اتفاقها معها لتنضمّ إلى صفوف العمال الكردستاني وتواصلا الحرب معاً ضد تركيا!
من المسؤول عن مقتل 34 كردياً في حادثة “أولو دره”
دبرت منظمة حزب العمال الكردستاني “مؤامرة” عام 2011 أوقعت فيها الجيش التركي، وبالتالي حكومة أردوغان، فتسبّبت في وقوع ما يسمى بـ”حادثة أولو دره”، التي أسفرت عن مقتل 34 كردياً مدنياً يقومون بتهريب بضائع على الحدود العراقية – التركية في قرية “روبوسكي” التابعة لبلدة “أولودره” بمدينة شيرناق جنوب شرق تركيا، وذلك في الوقت الذي كانت الحكومة تستعد فيه للاعتراف الكامل بحقوق الشعب الكردي وكان العمال الكردستاني يعيش أصعب أيامه.
وحمَّلت هيئة الأركان العامة جهاز المخابرات الوطنية (MİT)مسؤولية الغارة الجوية “الخاطئة”، بسبب تقريره حول استعداد “فهمان حسين”؛ أحد زعماء العمال الكردستاني لهجوم إرهابي في المنطقة.
والملفت أن الصحف المحلية كتبت آنذاك أن هذه المعلومات الخاطئة جاءت من إيران في إطار التعاون الثنائي بين البلدين. ففي معرض حديثه عن حادثة أولو دره، وفي إطار رده على سؤال مفاده “هل تأتيكم معلومات استخباراتية من الدول الأجنبية” يقول رئيس المخابرات العسكرية السابق إسماعيل حقي بكين “رئيس المخابرات هاكان فيدان كان يقدم لنا معلومات استخباراتية مصدرها إيران عن المنطقة الجبلية الواقعة في المثلث التركي العراقي الإيراني”.
ومهما كان الأمر فإن هذه الحادثة وما تلاها من أحداث مشابهة، مهّدت الطريق لتكبيل أيدي القوات الأمنية والعسكرية إزاء عناصر العمال الكردستاني، ومن ثم إقالة وزير الداخلية إدريس نعيم شاهين في وقت لاحق من قبل أردوغان، بطلب الزعيم الإرهابي عبد الله أوجلان، كما صرح ذلك الوزيرُ بالذات. وذلك رغم أنه كان الاسم الذي يقف وراء العمليات الناجحة ضدّ هذه المنظمة الإرهابية، لدرجة أن المكالمات اللاسلكية التي جرت آنذاك بين الزعماء الإرهابيين كشفت عن اعترافهم بتعرض المنظمة لخسارة كبيرة جداً وفقدانها قوتها تماماً.
وعندما أوشكت المنظمة الإرهابية على التمزق والانتهاء، بفضل العمليات الناجحة في عهد شاهين، جاء حينها بالضبط طوق النجاة لها من خلال “مفاوضات السلام” التي أجرتها المخابرات الوطنية بقيادة هاكان فيدان، والتي كانت صحيحة من حيث المبدأ، مع أخطاء كثيرة في الطريقة المتبعة. فبعد حادثة أولودره أمرت الحكومة بوقف العمليات الأمنية والعسكرية ضد المنظمة، ومن ثم أطلقت أو اضطرت إلى إطلاق مفاوضات معها لتسوية القضية الكردية، بدلاً عن التواصل مع الشعب الكردي الذي هو الضحية الحقيقية لإرهاب المنظمة وجور “الدولة العميقة” أرجينيكون والاعتراف الكامل بحقوقه. لكن المنظمة رغم تعهدها بترك السلاح ومغادرة الأراضي التركية، لم تنفذ أياً من تعهداتها، بل استغلت فترة مفاوضات السلام لاستعادة قوتها السابقة، والاستعداد لإعلان حرب الشوارع في مرحلة مقبلة، كما اعترف بذلك أردوغان بالذات.
وأردوغان كان يعارض النداءات المطالبة بإجراء هذه المفاوضات بشفافية تحت مظلّة البرلمان حتى لا تفتح الأبواب لأية مساومات سياسية بين الطرفين، ويسكت كلّ المعترضين على الأخطاء المرتكبة، والطريقةِ المتبعة، وتحويلِ العمال الكردستاني إلى الممثل الوحيد للشعب الكردي، بدلاً عن تهميشه والتفاوض مع الحركات الكردية الأخرى المعتدلة الرافضة للعنف. وذلك لأنه كان يريد الحصول على النظام الرئاسي بدعم الأكراد مقابل “ما أعطاه” للكردستاني بموجب الاتفاق السري بينهما. لكن حلمه هذا تحطم بنجاح الحزب الكردي في دخول البرلمان كحزب مستقل وخسارة العدالة والتنمية حتى الأغلبية المطلقة اللازمة لتشكيل الحكومة منفرداً، الأمر الذي اعتبره أردوغان خيانة وانتهاكاً للوعد الذي قطعه العمال الكردستاني على نفسه عبر امتداده السياسي.
حشرات إيرانية في غرفة أردوغان!
هل التنصت على جواسيس إيران تنصت على أردوغان؟!
وفي العام ذاته، أي عام 2011، عثرت أجهزة الأمن على أجهزة تنصت في غرفة أردوغان، أي قبل عامين من بدء تحقيقات الفساد في نهاية عام 2013، وبالتالي قبل أي حديث عما يسمى بالكيان الموازي. ثم فتح المدعي العام، بأمر صادر عن أردوغان، تحقيقاً حولها، عقب بدء تحقيقات الفساد، بعد انتظار مدة عامين دون إجراء أي تحقيق، ليستخدمه أردوغان في اتهام ما سماه بالكيان الموازي بالتنصت عليه ويعتقلَ مجموعة من قيادات ورجال الأمن المزعوم تورطهم في هذا الأمر، بمن فيهم حراسه الشخصيون.. قيادات الأمن الذين كانوا في الحقيقة يتابعون ويطاردون الجواسيس الإيرانيين وأعضاء تنظيم السلام والتوحيد الإيراني. ومع ذلك فإن الإعلام الموالي لأردوغان قدم التنصت على جواسيس إيران وكأنه تنصت على أردوغان وأعضاءِ الحكومة للتمويه على القضية وإغلاقها وإنقاذ الجواسيس الإيرانيين، إلى جانب توظيف ذلك في الاتهامات الموجهة ضد حركة الخدمة. وفعلاً تمكّن عشرات الجواسيس الإيرانيين بعد إغلاق القضية، والزجِّ بقيادات الأمن المشرفين عليها في السجن، من الفرار من تركيا إلى إيران.
إلا أن المحكمة أصدرت في شهر يوليو عام 2015 قرارًا بتبرئة ساحة ثمانية من هؤلاء المتهمين، وعلى رأسهم “حسن بالاز”، نائب الرئيس السابق لهيئة الأبحاث العلمية والتكنولوجية التركية توبيتاك (TÜBİTAK) ورئيس الحرس الخاص بأردوغان “زكي بولوت”، لتنهار كل مزاعم أردوغان.
لكن المثير هنا هو أن وثائق المحكمة كشفت أن رجل الأعمال الإيراني ذا الجنسية التركية رضا ضراب، المتهمَ “رقم واحد” في قضية الفساد والرشوة في تركيا عام 2013، والذي وصفه أردوغان بـ”رجل الأعمال الخير”، هو أحد شركاء الشركة التي وفّرت أجهزة التنصت التي عثر عليها في مكتب أردوغان!
دعوا ما ذكرته في الحسبان ثم اقرؤوا هذه السطور:
“ما هو مصير 100 عميل إيراني تسلّلوا إلى الأراضي التركية“
ذكرت صحيفة “تركيا” الموالية لأردوغان في 17 سبتمبر / أيلول عام 2013، أي قبل ثلاثة أشهر من ظهور فضائح الفساد والرشوة في 17 ديسمبر/ كانون الأول من العام ذاته: “عقب العثور على أجهزة تنصّت في مكتب أردوغان العام المنصرم، عثرت القوات الأمنية هذه المرة على أجهزة تنصت مخبأة في غرف مقرّ رئاسة المغتربين الأتراك التابعة لرئاسة الوزراء. فبعد متابعة أمنية دقيقة، توصّل الأمن إلى أن “فاطمة..” و”عزيمة..” اللتين تعملان لصالح المخابرات الإيرانية، وشاركتا في تأسيس حزب العدالة والتنمية عام 2001، وتقدّمان اليوم دعمهما لسياسات الحزب من الخارج، هما من وضعتا أجهزة التنصت هذه. كما تبيّن أنهما وضعتا أيضًا أجهزة تنصّت في إحدى الدوائر التابعة لرئاسة الوزراء وكذلك في “فيلا” يملكها شخص له صلة بحزب العدالة والتنمية، فضلاً عن ذلك فإنهما بادرتا للتنصّت على أحد الوزراء أيضًا”.
ومع أن الصحيفة ذاتها، إلى جانب صحف أخرى، نشرت أخباراً تفصيلية عن هذه الحادثة على مدار ثلاثة أيام متتالية..
وكذلك كتبت صحيفة “خبر تورك” الموالية لأردوغان في عام 2012 أن إيران أرسلت 100 عميل لدى “منظمة المخابرات والأمن القومي الإيراني” (السافاك) إلى تركيا مكتنفين بعباءة دبلوماسية أو مستظلّين بغطاء صحافي. ورغم أن السلطات الأمنية اعتقلت 9 أشخاص في العام ذاته (2012)، أحدهم يحمل الجنسية الإيرانية، بتهمة التجسّس لصالح المخابرات الإيرانية، في أعقاب عمليات مداهمة بعض المنازل في ولاية “إغدير” المتاخمة لأرمينيا والقريبة من الحدود الإيرانية.
لكن أردوغان ومسؤولي الحكومة آنذاك لم يعيروا اهتماماً لهذه الأمور وأغلقوا الموضوع، تماماً مثلما أغلقوا قضية تنظيم السلام والتوحيد الإرهابي التابع لجيش القدس الإيراني أيضاً. وليس هناك جواب لسؤال: لماذا؟
“فضيحة تسليم عناصر المخابرات التركية العقيد السوري “حرموش” للأسد
تذكّروا إذ كانت الأحداث اندلعت في سوريا، وبدأ نظام بشار الأسد يقصف المعارضين من مواطنيه، وأخذ الجيش السوري في التفكك من جانب، ويتشكّل “الجيش السوري الحر” من جانب آخر، وينفصل كثير من الضباط السنة واحداً تلو آخر من الجيش النظامي ليلتحقوا بهذا الجيش الجديد الذي اتخذ مدينة هطاي مقراً رئيسياً له. وفي الوقت الذي كان العالم يتوقع أن تزيد قوة الجيش الحر، هرب العقيد حسين مصطفى حرموش من سوريا، وأتى إلى تركيا، تمهيداً للانضمام إلى الجيش الحر، الأمر الذي كان يشكّل خطورة كبرى بالنسبة لدمشق. ثم تغيرت الموازين واستمر تقدم الجيش الحر بحيث بدأ رئيس الوزرء حينها أردوغان يقول: “سنسقط خلال بضعة أشهر نظام الأسد وسنصلي صلاة الجمعة في الجامع الأموي”، وعلى نفس المنوال كان يقول وزير خارجيته وقتها أحمد داود أوغلو “لم يبق لسقوط دمشق سوى عدة أشهر!”.
لاحظوا كل هذه الأمور ثم فكروا فيما يلي:
بادر أعضاء في شعبة المخابرات التركية بمدينة أضنة إلى تسليم رئيس الجيش السوري الحرّ “حسين مصطفى حرموش” و”مصطفى قسّوم” إلى السلطات السورية، للحصول على مكافأة 100 ألف دولار تعهّد بها النظام السوري لمن يأتي بهما حياً أو ميتاً، وذلك في شهر أيلول من عام 2011. لا شكّ في أن هذا الحادث كان بمثابة “الضربة القاصمة” الموجهة ضد الجيش الحر والتي أدت إلى تخلّي الضباط السنة من الانفصال عن الجيش النظامي والانضمام إلى الجيش الحر.
والغريب في الأمر أن إغلاق الملف وتهريب الموظفين المخابراتيين المتهمين بتسليم حرموش إلى الأسد من القضاء والعقوبة تزامن مع اللقاءات التي أجراها هاكان فيدان (في 3 – 4 ديسمبر/كانون الأول 2012) مع محافظ ولاية هطاي، وفق ما كتبته صحيفة “رديكال”.
“أسطورة التخطيط لاعتقال هاكان فيدان وأردوغان“
الآلة الإعلامية العملاقة الخاضعة لأردوغان بدأت تبرر كل وسيلة مهما كانت من أجل تحقيق الغاية، بما فيها حياكة سيناريوهات وقصص وهمية لا تمت بصلة إلى الواقع، خاصة بعد الكشف عن فضائح الفساد والرشوة التاريخية. وأبرز عملية اختراق العقول وزرع الأفكار التي باتت الأداة التي يستخدمها رجال أردوغان في عمليات مطاردات الساحرات التي ينفذونها منذ أكثر من عامين ضد كل من يصنفونهم ضمن “معارضي أردوغان”، بتهمة مزورة تحت مسمى “الانتماء إلى الكيان الموازي”، هو ما يعرف بــ”حادثة استدعاء رئيس المخابرات من قبل النيابة العامة”. ولأن هذه الحادثة أثارت زوبعة سياسية كبيرة وكانت بمثابة “نواة” للأحداث التي تبعتها ينبغي التوقف عندها لإزاحة الستار عن كل ملابساتها.
يزعم إعلام أردوغان أن المدعي العام صدر الدين صاري كايا “استدعى” رئيس المخابرات هاكان فيدان في 7 فبراير/ شباط لعام 2012 لـ”أخذ إفاداته” بسبب مشاركته في “مفاوضات أوسلو” الرامية إلى التوصل مع العمال الكردساني لتسوية حول القضية الكردية، وذلك كأولى خطوة لتمهيد الطريق إلى الإطاحة بالحكومة و”اعتقال أردوغان” عبر محاسبة “السياسة” التي تتبعها حكومته في التفاوض مع المنظمة الإرهابية. ثم هبّ يحيك قصصاً وهمية تدعم هذا التصور. وفي سيبل تشكيل هذا الإدراك في الرأي العام أنتجوا حتى فيلماً يتناول هذه الحادثة. فالمدعى هو أن المدعي العام صاري كايا اختار وقتاً حساساً جداً لهذا الخروج على الحكومة حيث تزامن مع خضوع أردوغان لعملية جراحية بحيث “لو نام على السرير قبل 45 دقيقة لوجد يديه مكبلتين عند إفاقته واستيقاظه من فراش العملية”!
أولاً: ما قام به المدعي العام لا يمكن وصفه بـ”الاستدعاء” بل هو “دعوة”. ذلك لأنه يجري مكالمة هاتفية مع فيدان، ثم يدعوه خلالها للتباحث والتشاور حول انخراط بعض عناصر المخابرات في صفوف حزب العمال الكردستاني والمشاركة معهم في أعمال إرهابية، إضافة إلى إطلاق سراح رجالٍ اعتقلوا على أنهم إرهابيون بحجة أنهم رجال المخابرات، ثم يتخذ الطرفان قراراً بعقد لقاء لبحث الموضوع، ويحددان يوماً معيناً فعلاً. أي الأمر عبارة عن دعوة رئيس المخابرات من أجل تبادل المعلومات التي يحوزها بشأن منظمة إرهابية. لكن نظراً لأن هناك استعدادات لإيجاد أرضية وإطارٍ لتنفيذ خطة مشؤومة، فإن هذا الموضوع يتم تسريبه إلى الموقع الإلكتروني لجريدة “حريت”، حيث ينشر خبراً قبل يومٍ واحد من انعقاد اللقاء يدعي فيه بأن “رئيس المخابرات فيدان كان سيعتقل لو استجاب لدعوة المدعي العام”. ومن ثم أخذوا يحيكون مؤامرة وفقاً لهذا الزعم.
كما أن البيان الذي نشره مساعد النائب العام في إسطنبول آنذاك “فكرت سجان” يكشف أن سبب دعوة فيدان ليس مشاركته في المفاوضات الجارية مع العمال الكردستاني، ولا محاسبة “السياسة” التي تتبعها حكومة أردوغان في هذا الصدد. حيث جاء في بيانه: “أن دعوة فيدان لتبادل المعلومات لا تستهدف، لا من قريب ولا من بعيد ،الجهودَ التي تبذلها أو السياسةَ التي تتبعها السلطة التنفيذية (الحكومة) من أجل إنهاء فعاليات الإرهاب. لكن ما حدث هو أن النيابة العامة في إسطنبول حصلت على دلائل ووثائق خلال تحقيق معين بخصوص منظمة كي جي كي (KCK) التي تعد “الجناح المدني” و”العقل المدبر” لمنظمة العمال الكردستاني تثبت أن عدداً من موظفي المخابرات انتهكوا نطاق المهام الموكلة إليهم وخرجوا عليها، وذلك عن طريق المساهمة في تنفيذ فعاليات المنظمة الإرهابية، الأمر الذي أثار شبهات قوية حولهم”.
والمفارقة أن أردوغان كان أطلق خلال حوار تلفزيوني على منظمة كي جي كي؛ اللجنة التنفيذية العليا للعمال الكردستاني “الكيان الموازي” داخل الدولة، وطالب باستمرار العمليات المنفذة ضد أعضائها وقيادييها، قبل أن يصف به حركة الخدمة!
والدليل القاطع على أن النائب العام صاري كايا لم يدعُ فيدان لمحاسبته على سياسة السلطة الحاكمة تجاه العمال الكردستاني هو أن النيابة العامة في أنقرة كانت تنظر فعلاً دعوى رفعها النائب البرلماني من حزب الشعب الجمهوري تانجو أوزجان حول مفاوضات أوسلو مع العمال الكردستاني. ولا يمكن فتح تحقيق جديد حول الموضوع تقنياً بينما يستمر التحقيق المذكور، مما يبطل دعوى محاسبة فيدان بسبب مفاوضات أوسلو وسياسة الحكومة في هذا المضمار.
أما الحكاية العاطفية حول التخطيط لاعتقال أردوغان بعد فيدان وهو على فراش العملية، فعارٍ عن الصحة تماماً. ذلك أن أردوغان كان خضع لعملية جراحية مهمة في 26 نوفمبر / تشرين الثاني، أي قبل شهرين على الأقل من حادثة دعوة فيدان من قبل المدعي العام في 7 شباط لعام 2012. بل كان عاد لجولاته الداخلية ما عدا الخارجية. ومن ثم أجريت له عملية بسيطة مكملة للأولى دون تخدير لكن في 11 شباط لعام 2012، أي بعد 4 أيام من الحادثة. وفي كلتا الحالتين فإن الزعم “لو نام على سرير العملية قبل 45 دقيقة لوجد يديه مكبلتين عند إفاقته” ليس إلا بمثابة إضافة صوص عاطفي إلى هذه الحكاية الملفقة!
فضلاً عن كل ما ذكرنا أعلاه، فإنه لم يكن من الممكن اعتقال أردوغان من الناحية التقنية، إذ من المستحيل أن يعتقل أي نائب عام رئيس الوزراء بإعداد لائحة اتهام بحقه، وليس بإمكانه، في أي حال من الأحوال، أن يعزله من منصبه ومهمته. وهذا لسبب بسيط، لأن رؤساء الوزراء، وكذلك النواب البرلمانيين، لا يمكن عزلهم من مناصبهم ومحاكمتهم ما لم تكن موافقة برلمانية وإحالة إلى محكمة أمن الدولة العليا. ولكن لما رفض فيدان الاستجابة لدعوة النائب العام، عمد هذا الأخير إلى تطبيق الإجراءات الرسمية، فطالب النيابة العامة في أنقرة بأخذ إفاداته حول الموضوع المذكور، ومن هنا اندلعت الأزمة المذكورة. ووظفت الحكومة هذه الأزمة في تنفيذ عملية تعيينات وتصفيات كبيرة في الأجهزة البيروقراطية للدولة، خاصة في جهازي الأمن والقضاء، إضافة إلى إجراء تعديلات قانونية وفرت درعاً قانونياً لعناصر المخابرات ربط إمكانية محاكمتهم قانونياً بإذن رئيس الوزراء أردوغان مهما كانت التهم الموجهة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن أردوغان ورجاله لم يتهموا في ذلك الوقت، أي عام 2012، حركة الخدمة بالوقوف وراء ما أسموه “الخروج على الحكومة”، ولم يتحدثوا أبداً عن وجود كيان موازٍ يريد الانقلاب عليها. بل كان هذا الوصف يطلق على منظمة كي جي كي المرتبطة بالعمال الكردستاني، من قبل أردوغان وإعلامه، كما قلنا. حتى عندما وردت مزاعم في بعض الصحف تتهم الخدمة بالوقوف وراء ذلك، خرج يالتشين أكدوغان كبير مستشاري أردوغان حينها ونائب رئيس الوزراء الحالي وكتب مقالاً بعنوان “نحن مدركون باللعبة”،
نفى فيه كل هذه الاتهامات عن الخدمة. ففي المقال الذي نشرته صحيفة “يني شفق” الموالية للحكومة في عنوانها الرئيسي مع وضع عنوان “بالتأكيد تفشل هذه اللعبة” أكد على “عدم وجود أي صراع بين حزبهم العدالة والتنمية وحركة الأستاذ فتح الله كولن، كما تصوّره بعض الأطراف ووسائل الإعلام في أعقاب استدعاء رئيس جهاز المخابرات فيدان”.
وقال “من غير الممكن أن يسود صراع أو نزاع في مجال السلطة والإدارة بين مجموعتين تسعيان إلى تقديم خدمات إلى شعبهما في مجالين مختلفين”، ثم لفت إلى أهمية الأخوّة والتضامن بين المجموعتين اللتين تجمع بينهما المثل العليا الخالدة وليس المنافع والمصالح العابرة. أكثر من ذلك فإنه شدد على أن آمال من يسعون إلى “إثارة الفتنة والبغضاء والعداوة بين الحكومة برئاسة أردوغان ومؤيدي حركة الخدمة لن تتحقق على الإطلاق، ولن يفتح الطريق أمام الحاقدين والحاسدين لتنفيذ مخططاتهم المنحوسة”.
الحقيقة هي أنه إن أمكن الحديث عن وجود مخطط انقلابي في هذه الحادثة فهو الانقلاب الذي أحدثته الحكومة ضد كل الكوادر الوطنية في مؤسسات الدولة. فالحكومة وظفت هذه الحادثة في منع تطهير المخابرات من عناصرها المرتبطة بالدولة العميقة التي تدير الشعب التركي عن طريق تنظيم أرجينيكون، والشعب الكردي من خلال تنظيم حزب العمال الكردستاني منذ تأسيس الجمهورية التركية الحديثة عقب سقوط الدولة العثمانية.
لماذا ساعدت المخابرات التركية عميلاً إيرانياً مطلوباً دولياً للفرار؟
كانت السلطات الأمنية التركية ألقت القبض على “حسين تانيده“، العميل الإيراني البارز الذي كان يهرّب مواد نووية من ألمانيا إلى إيران لتتمكن من الاستمرار في برنامجها النووي الحيوي. تانيده كان من أخطر رجال المخابرات الإيرانية في شبكة تهريب المواد النووية. لذلك أصدرت ألمانيا نشرة حمراء لتلقي الشرطة الدولية (الإنتربول) القبض عليه حيثما وجدت.
وعلى الرغم من أن تانيده ألقي القبض عليه وهو يدخل تركيا عبر مطار إسطنبول الدولي في 19 يناير / كانون الثاني عام 2013 وأودع السجن، وأن ألمانيا طالبت تركيا بتسليمه إياها، ووافقت على ذلك، إلا أن رئيس المخابرات فيدان تدخّل في الأمر وحال بالذات دون إتمام عملية التسليم، بل أخلي سبيله وغادر إلى إيران بدلاً عن ألمانيا، الأمر الذي أحدث ضجة كبيرة وأزمة بين البلدين، كما كتبت وقتها صحيفة “طرف” المعروفة.
غسل الأموال الإيرانية في الحمام التركي!
في الوقت الذي كان المجتمع الدولي يفرض عقوبات اقتصادية على إيران، هبّت الأخيرة لتشكيل “شبكة فساد وتبييض أموال” عملاقة، تضمّ كلاً من رجل الأعمال الإيراني بابك زنجاني ورجل الأعمال الإيراني الحاصل على الجنسية التركية رضا ضراب. من خلال هذه الشبكة تنفست إيران اقتصادياً وباعت نفطها في الأسواق العالمية، ومن ثم بيّضت الأموال التي حصلت عليها في “الحمام التركي”.
وتشير التقارير إلى نقل 37 مليار دولار إلى إيران عبر تركيا بين أعوام 2008 و2010 فقط، وذلك دون أن يدخل حتى قرش واحد من الضرائب إلى صندوق الدولة التركية.
ونظراً لأن الطائرات التابعة للخطوط الجوية لإيران كانت قديمة، كانت تشهد كثيراً من حوادث طيران كل يوم بحيث أشرف نظام النقل الجوي على الانهيار. وفي هذه النقطة بالضبط قدّمت تركيا لإيران “سفينة نوح” لإنقاذها في هذا المجال أيضاً. فاشترى الإيراني زنجاني من تركيا شركة “أونور إير” للطيران (Onur Air) عن طريق شركات صورية ووهمية، ثم تبع ذلك ضمّ طائرات أونور إير إلى شركة طيران زنجاني. وبذلك دخلت طائرات إيرباص إلى إيران كذلك.
ومن السهولة بمكان الانتهاء إلى أن مهمة “شبكة الفساد وتبييض الأموال” الإيرانية هذه لم تكن تقتصر على كسب أموال وتنفيس إيران اقتصادياً فقط، بل المهمة الرئيسة لها كانت توريط مسؤولين يحتلون مواقع خطيرة في مفاصل الدولة التركية في جرائم فساد ورشوة إن أمكن أو تصيّدهم عبر “نساء المتعة” لتجعلهم “أسرى” و”رهائن” بيدها، وتوظفهم في تحقيق مصالحها القومية الفارسية.
ملاحقة الفاسدين وجواسيس إيران بدأت حتى قبل عام 2000
وعلى عكس المعروف ومزاعمِ الأبواق الإعلامية الموالية للحكومة، فإن ملاحقة الأجهزة الأمنية والقضائية للفاسدين والجواسيس الإيرانيين يعود تاريخها إلى بدايات الألفية الثالثة، وقبل أن يخطر على بال أحد حتى شبح “الكيان الموازي”. فإن هناك كثيراً من القضايا المرفوعة ضد بلدية إسطنبول بتهمة الفساد في المناقصات والعطاءات الرسمية وقت رئاسة أردوغان لها. واتهمت السلطات القضائية أردوغان آنذاك باستغلال وظيفته في أثناء هذه المناقصات. لكن هذه الملفات – كما هو الحال اليوم – أغلقت بشكل مؤقت مع حصول أردوغان على الحصانة القانونية بعد أن أصبح رئيس الوزراء.
ونظراً لأن ممارسة الفساد من الممكن أن تحدث في أي بلد ويتورط فيها حتى الوزراء، خاصة إذا كانوا من حزب حاكم منذ سنين، فإن المتوقع والمنطقي بل الضروري كان أن يبادر أردوغان إلى فصْل الوزراء المتهمين بالفساد من حكومته وحزبه، ووضع مسافة بينه وبينهم، ومن ثم مواصلة المشوار! ولكن أردوغان لم يفعل ذلك، بل شرع في البحث عن طريقٍ ظنّ أنه كفيل بإخراجه من هذا المأزق، حتى يستمر في منصبه ولا يعرّض حلمه المتمثّل في رئاسة البلاد، ومن ثم الانتقال إلى النظام الرئاسي لأي خطر. وبما أنه ثبت باعتراف أردوغان خلال مؤتمر صحفي وجود تقارير قدمها له جهاز مخابراته قبل 6 أشهر من بدء حملات الفساد، تنبه إلى ممارسة بعض وزراءه أعمال فسادٍ وعقْدِ علاقاتٍ غيرَ قانونية مع الإيراني ضراب، وتحذره من أن يشكّل ذلك خطراً لحكومته مستقبلاً، فمن السهولة بمكان أن نستنتج أنه كان قد أعدّ الخطة التي اعتقد أنها ستخرجه من هذا المأزق في وقت سابق، لأنه كان يعرف أن هذا الملف يطارده وسيواجهه يوماً ما. وأظهرت الأيام القادمة صحة هذا الاستنتاج حين حاول أردوغان التستّر على مزاعم الفساد وتوجيهَ الأنظار إلى أمور أخرى عبر خلْق عدوّ وهمي باعتباره كبش فداء. ولم يكن هذا العدوّ سوى حركة الخدمة.
الواقع أن هذا الاختيار الإستراتيجي كان اختياراً موفقاً بالنسبة لأردوغان، ذلك لأن الرأي العام في تركيا كان جاهزاً لقبول “الانطباع” الذي سيخلقه أردوغان في “الأذهان” بأن هناك عدواً يهجم عليه ويرغب في تدمير المكتسبات التي حققتها تركيا بقيادته. إذ كان الرأي العام في الأيام التي سبقت فضيحة الفساد الكبرى قد خاض غمار نقاش حاد دار بين حكومته وحركة الخدمة حول إغلاق المعاهد التحضيرية الخاصة. فقد أثار أردوغان هذا النقاش عمداً لإعداد الأرضية والأذهان لتطبيق إستراتيجته الدفاعية المستقبلية بسهولة للتخلص من البقاء والموت تحت الانهيار الثلجي المحقق (ملفات الفساد). ففي ظل هذه الأرضية المواتية، بدأ أردوغان يصوّب سهامه تجاه الخدمة، ويتهمها بالوقوف وراء قضية الفساد التي اعتبرها محاولة انقلاب تريد النيلَ منه، وادعى أن وقوف الخدمة ضده فيما يتعلق بقضية الفساد بمثابة انتقام من اعتزام حكومته على إغلاق المعاهد التحضيرية.
متى بدأ التخطيط للقضاء على حركة الخدمة؟
لكن مزاعم أردوغان انهارت تماماً بالوثائق الرسمية التي سرّبتها جريدة طرف، إضافة إلى التقرير المذكور للمخابرات، حيث كشفت أن قرار القضاء على الخدمة وأمثالها من الجماعات الإسلامية الأخرى قد اتُّخذ في اجتماعٍ لمجلس الأمن القومي عام 2004، ووقّع عليه كل أعضاء الحكومة، وعلى رأسهم أردوغان.
ولمحاربة هذا العدو الجديد عقد أردوغان أو اضطر إلى عقد اتفاق مع إيران وامتدادتها في تركيا وتنظيم أرجينيكون، الدولة العميقة، ينص على إغلاق قضية تنظيم السلام والتوحيد الخاصة بجواسيس إيران، وإطلاق سراح جميع أعضاء أرجينيكون المحبوسين من الضباط والجنرالات العسكريين، إلى جانب قضية الفساد الخاصة بحكومته، ومن ثم إطلاق حملة شعواء تستهدف القضاء على حركة الخدمة أولاً، والجماعات الإسلامية غير الخاضعة لسلطته لاحقاً، وذلك بعد إلصاق كل الجرائم المرتكبة في تاريخ تركيا الحديثة بهذه الحركة بفضل الدعاية السوداء العملاقة التي قادتها الأبواق الإعلامية التابعة له!
ورأينا فعلاً أن الملفات المتعلقة بالفساد والتجسس الإيراني أغلقت بقرار صادر عن محاكم الصلح والجزاء التي أسسها أردوغان خصيصاً لتتولى عمليات مطاردة الساحرات الموجهة ضد حركة الخدمة، كما أفرج عن جميع أعضاء أرجينيكون والضباط الانقلابيين. ومن ثم تبعت ذلك الحملة المضادة، حيث تم نفي أو اعتقال كل المسؤولين من جهازي الشرطة والقضاء الذين أشرفوا على التحقيقات في إطار هذه القضايا الثلاث، بعد توجيه اتهامات ملفقة لهم تمثلت في “الخروج عن الإطار القانوني” في أثناء تعاملهم مع هذه القضايا.
لم يكتفِ أردوغان بقلب جهازي الأمن والقضاء رأساً على عقبٍ كالعهن المنفوش، بل عمد إلى اعتقال الآلاف من المدنيين بتهمة ارتباطهم مع الخدمة، بما فيهم النساء والشيوخ الركّع. بل طال الأمر إعادة إحياء العادات الجاهلية، إذ أصدر قرارات لمصادرة الشركات المصنفة ضمن الشركات التابعة للحركة، خاصة المجموعات الإعلامية التي رقضت الخضوع له كمجموعات “إيباك” و”سامان يولو” و”زمان” الإعلامية، وشركات مجموعة “كايناك” القابضة التي تضم تحت مظلتها 22 شركة رائدة في التعليم والتي توفّر عملاً لأكثر من 7 آلاف إنسان.
والطامة الكبرى هي أن عرفان أوكوموش، المدير الذي عينه الإيراني زنجاني على قسم العمليات النقلية لشركة أولوصوي سالفة الذكر عُيّن باعتباره وصياً على شركات كايناك، وكأنه لم يبقَ أي إنسان آخر في هذا البلد لإسناد هذه المهمة إليه، ما يعني أن تعيين هذا الرجل وصياً على شركات الخدمة ليس صدفة وخطوة بريئة.
في تركيا مجموعتان كبيرتان تبديان معارضة شديدة على الأنشطة والعمليات الإيرانية – الفارسية في تركيا والجمهوريات التركية في وسط آسيا بصفة خاصة، والعالم الإسلامي بصفة عامة، هما حركة الخدمة و”جماعة إسماعيل آغا”. والأولى تتعرض لحملة شعواء تستهدف القضاء عليها كلياً من خلال عمليات مصنوعة في مطبخ المخابرات بقيادة فيدان، كما تتعرض الثانية لحملات مشابهة، خاصة في الأيام الأخيرة. وفي الوقت الذي تبذل المخابرات التي تتحول كل عملياتها في نهاية المطاف لصالح إيران جهوداً جبارة لتقديم الخدمة للعالم كـ”تنظيم إرهابي”، مع أنها الحركة السنية الوحيدة التي تتميز بموقفها الواضح والحاسم إزاء الإرهاب، نرى أن إيران و”الشيعة الإيرانية” تقدَّم للعالم باعتبارها “ترياقاً مضاداً للإرهاب الإسلامي!”
هل سوريا هي المعرضة لعملية دولية أم تركيا؟
لنفترض أن تحقيقات الفساد كانت تستهدف الإطاحة بحكومة أردوغان، فما سر إغلاق قضية التجسس الإيراني واعتقال جميع رجال وقيادات الأمن المشرفين عليها إذن؟ وذلك بالرغم من ورود مزاعم خطيرة جداً في إطار هذه القضية تمس الأمن القومي لتركيا. إذ يقول آدم أوزجان، أحد النواب العامين المكلفين بالنظر في هذه القضية “إن اثنين من أعضاء تنظيم السلام والتوحيد كانا يتحدثان عن شخص يُدعى “أمين” في المكالمة الدائرة بينهما. ثم تبين فيما بعد أن هذا الشخص الملقب بـ”أمين” هو رئيس المخابرات فيدان، لكننا لم نتخذ أي إجراء رسمي بحقه، نظراً لتمتعه بالحصانة القانونية”. كما يرِد في المكالمات الهاتفية المسجلة بموجب قرار صادر عن المحكمة أن المسؤولين الإيرانيين يفرحون فرحاً شديداً بتعيين فيدان رئيساً للمخابرات من قِبَل أردوغان ويصفونه بـ”تعيين القرن” بالنسبة لهم.
ومع أن هذه المزاعم تظلّ مجرد مزاعم، لكن ألم يكن من الجدير بل الواجب انتظار انتهاء هذه العملية القانونية بعد المرور بمراحلها الطبيعية بدلاً من إغلاقها لنرى ما ستسفر عنه؟ وألم يكن من الواجب أن يتبادل السيد فيدان المعلومات التي يحوزها بخصوص مشاركة عناصر المخابرات في العمليات الإرهابية برفقة عناصر العمال الكردستاني عندما دعته النيابة العامة؟ خاصة إذا علمنا أن هناك معلومات تتداول في تركيا منذ سنوات تشير إلى أن بؤراً معينة في جهاز المخابرات لها امتدادات خارجية هي من أسّست العمال الكردستاني قبل نحو 50 سنة لتوظيفها في تحقيق مصالحها من خلال الإيقاع بين الأتراك والأكراد.
فهل هناك من تفسير معقول لتمخُّضِ أكبر ثلاث عمليات صنعتها ونفذتها المخابرات التركية، وهي عملية السلام مع العمال الكردستاني، والسياسة الخارجية الخاصة بالأزمة السورية، والحرب الموجهة ضد حركة الخدكة، عن إضعاف تركيا وتطويقها وتكبيل أيديها وإقصائها عن المنطقة والعالم، وفتحِ كل الأبواب أمام إيران؟
ما سر هذا الانحياز التركي الكبير لإيران في كل القضايا، رغم أنها أكبر حليف لنظام الأسد الذي يحاول أردوغان إسقاطه؟!
لماذا يصف أردوغان إيران بـ”بيتي الثاني” وفيدان بـ”كاتم أسراري”؟
لماذا تحولت تركيا إلى حمام لغسل الأموال الإيرانية؟
لماذا تم إيداع كتاب صحفيين كشفوا عن الأنشطة الاستخباراتية الإيرانية في تركيا، وعلى رأسهم الكاتب الصحفي كولتكين آفجي.
كيف انفتحت إيران على الخارج وأصبحت دولة سلمية في كل أنحاء العالم، بعد أن كانت دولة معزولة وإرهابية، بينما انغلقت تركيا على نفسها وأصبحت مطرودة عن العالم ومذكورة جنباً إلى جنب مع الإرهاب والتنظيمات الإرهابية، بعد أن كانت تقدَّم لكل العالم دولة نموذجية جمعت في ذاتها القيم الإسلامية والديمقراطية معاً؟
لماذا لبست تركيا “الجديدة” قميص إيران القديمة؟ وكيف سرقت إيران دور تركيا الجديدة فأصبحت دولة مسموعة الكلمة في المنطقة والعالم، فيما باتت تركيا مجردة من أي وزن وثقل حتى في بيتها الداخلي فضلاً عن المنطقة والعالم؟
فهل يمكن وصف تلك الأحداث المذكورة بالصدفة؟ أليس هناك نوع من القانون المطرد حتى للصدفة؟
لمن هذه اليد السرية التي طوقت تركيا من جميع أطرافها وجلبت عليها أزمات لا تعد ولا تحصى في الداخل والخارج بحيث بدأت تخطط للمشاركة في الحرب المشتعلة في سوريا، مع أن بيتها الداخلي يتصدّع ويشتعل بنيران الهجمات الإرهابية للعمال الكردستاني وداعش وغيرهما، بعد أن كانت تنفتح على المنطقة والعالم عبر تفعيل “القوة الناعمة” و”العلاقات التجارية” و”علاقات الجوار”، وتتمكن من التفاوض مع كل الدول المجاورة، بما فيها إسرائيل وسوريا وإيران وأرمينيا؟
وإذا ما أضفنا إلى ما ذُكر أعلاه المحاولة الانقلابية “المفبركة” التي استهدفت “إسقاط تركيا” برمتها، وليس توجيه الضربة القاصمة على حركة الخدمة فقط، بالله عليكم قولوا لنا: هل سوريا هي التي تتعرض لعملية دولية أم تركيا؟
خلاصة القول: استغلت القوى الكبرى مطامع أردوغان في السلطة المطلقة لتستمر في استهلاك طاقة العالمين السني والشيعي عبر خلق صراعات طائفية.. وقد نجحت في ذلك أيما نجاح! ومع الأسف أن كلاً من الحكومتين التركية والإيرانية قدمتا لها ما يكفل نجاحها في هذا المضمار بخوضهما حروباً بالوكالة في سوريا وصراعاً على النفوذ في عموم المنطقة.
مع أن أردوغان كان أطلق مشواره السياسي لنقل الأتراك إلى نادي الاتحاد الأوروبي، لكنه تركهم في وسط الطريق بسوريا الحافلة بالصراعات والحروب.
كما أنه كان يرغب في أن يكون نموذجاً سياسياً للعالم الإسلامي، إلا أنه حطّم أحلام المسلمين جميعاً وشتّتهم إلى ألف جزء وجزء بدلاً عن توحيدهم على كلمة سواء، بعد أن صار “أداة” تستخدمها حتى دويلات صغيرة في تحقيق مصالحها بسبب شتى الثغرات الموجودة في نفسه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق