الخميس، 21 فبراير 2019

وزير الغلابه رقم 2


عوده لأستكمال مزكرات وزير الغلابه كمال الجنزورى وكتابه طريقى

الفريق  كمال عسكر  فى فترة التجنيد كنت أخشى من القائد «العميد عسكر».. ودارت الأيام وأصبحت رئيسه فى «التعبئة والإحصاء» بعدما صار «فريقًا» رئيس لرؤسائى  يصح هنا أن أقف عند أمرين، الأمر الأول يتعلق بالعميد جمال عسكر الذى حصل فيما بعد على رتبة فريق ورئيس الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، والذى تكرر معه بعد ثلاثين عامًا من تجنيدى أى فى سنة 1988 موقف مشابه مع الفارق لما حدث مع السيد سيف الدين القبانى، إذ صدر قرار جمهورى بتبعية الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء لوزير التخطيط، وكنت حينذاك نائبًا لرئيس الوزراء ووزيرًا للتخطيط


 جاءنى الفريق جمال عسكر، ليعرض على بعض شئون الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء ولم أنس أبدًا أنه كان يومًا قائدًا للجهاز، وكنت مجرد جندى بسيط  فظل بالنسبة لى زميلًا احترمته كل الاحترام، رغم ما كنت وما أصبحت عليه  هذا سلوك تفضل الله على به، وطبعت عليه طوال عمرى كنت أيضًا موظفًا بوزارة التخطيط، وعندما أصبحت رئيسًا للوزراء قابلنى الكثير من الزملاء الذين كانوا فى يوم ما رؤسائى، ومرت الأيام لأكون رئيسًا لهم  كنت أتعامل معهم بذات الطريقة التى تعاملت بها معهم من قبل  الحب والاحترام والتقدير، هذا ما حرصت عليه وتمنيت دومًا أن يكون نهجًا عامًّا لكل من علا منصبه  أن يظل خاشعًا يخشى الله




 الأمر الثانى، أنه ظهر إعلان عن منحتين لدراسة الماجستير فى الولايات المتحدة الأمريكية فى الشهور الأخيرة من التجنيد. وتقدمت والدكتور يحيى محيى الدين ـ شقيق السيد زكريا محيى الدين عضو مجلس قيادة الثورة ونائب رئيس الجمهورية ـ لهاتين المنحتين. ووقع الاختيار على كلينا، ولكن قبل السفر بفترة وجيزة، طُلب منّى ما يثبت أداء الخدمة العسكرية، التى لم أكن انتهيت منها بعد. وتقدمت بالتماس لرئيس جهاز التعبئة العامة والإحصاء ليسمح لى بالسفر للدراسة، وطلبت فى المقابل أن أجند عامًا ونصف العام بدلًا من الثلاثة شهور المتبقية، ومع ذلك رُفض الالتماس، فقلت، هذه إرادة الله. وتذكرت أنه لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع




 تشاء الأقدار بتعويض ما فاتنى إذ مرت بضع سنوات، سافرت بعدها إلى الولايات المتحدة الأمريكية فى مارس عام 1963 فى منحة دراسية للدكتوراه، وحصلت عليها عام 1967. هذا الأمر أعطانى درسًا ظل معى طوال عملى الوظيفى، هو ألا أسعى إلى منصب أو جاه أو مال، وعلىّ أن أعمل بجد وصدق ووفاء، وأتعامل مع الكل بإخلاص واحترام مع الزملاء والرؤساء والمرءوسين. ثم حينما أحصل على منصب أو مال، فما علىّ إلا أن أحمد الله عليه، وإن لم يأت فشكر الله واجب لأنه لو كان فيه الخير لأتى. انتهت فترة الخدمة العسكرية، ثم بدأ العمل المدنى بوزارة الزراعة بمصلحة الاقتصاد والإحصاء بقسم التسويق، وكان رئيسى السيد عبد الرحمن موسى. واستمر عملى فى تلك المصلحة شهورًا قليلة، إذ صدر فى أوائل سنة 1960 قرار جمهورى بإنشاء وكالة للتخطيط والمتابعة بكل وزارة لتكون المسئولة، عن إعداد الخطة القومية بدءًا بالخطة الخمسية الأولى 1960 ـ 1965 وكان وزير الزراعة فى ذلك الوقت الدكتور أحمد المحروقى، وكان مدير مكتبه السيد عبد العزيز محيى الدين، الأخ للسيد زكريا محيى الدين. ووقع الاختيار على قلة، كنت منهم للعمل بمكتب التخطيط والمتابعة بوكالة وزارة الزراعة الملحقة بمكتب الوزير





 بهذا أراد الله لى أن أعمل فى مهنة التخطيط منذ البداية، عندما أُعِّدت الخطة الخمسية الأولى 1960 ـ 1965، بإشراف السيد عبد اللطيف البغدادى نائب رئيس الجمهورية ووزير التخطيط



تزوجت من السيدة رأفت أبوالذهب فرغلى، السيدة الفاضلة، التى ظلت لى صاحبة وسكنًا وفى قلبى لها مقام علا علوًّا لا يدانيه إلا مقام الأم  جاهدت معى موظفًا بسيطًا بوزارة الزراعة ووزارة التخطيط، فمدرسًا وأستاذًا مساعدًا بمعهد التخطيط القومى، فوكيلًا لوزارة التخطيط، فمحافظًا للوادى الجديد، فمحافظًا لبنى سويف، فنائبًا لوزير التخطيط ومديرًا لمعهد التخطيط، فوزيرًا للتخطيط ونائبًا لرئيس الوزراء ووزيرًا للتخطيط، وأخيرًا رئيسًا للوزراء ووزيرًا للتخطيط



ظلت معى نعم الزوجة المحبة الوفية الصابرة والصديقة، والصاحبة ملأت حياتى بالهدوء والرضا، لم تبخل بجهد وعطاء وإخلاص ووفاء.. لها الدور الأول والقدير فى رعاية بناتى والسهر على تربيتهن صغارًا، ورعايتهن وأبنائهن كبارًا دون ملل أو وهن وعلى خير وجه، فكان ولا يزال فضل الله بها علىّ عظيمًا



 أعود إلى بداية سنة 1963، حيث تقرر إيفادى إلى الولايات المتحدة فى مهمة علمية، فلقد أعلنت وزارة التخطيط عن بعثة لدراسة الاقتصاد فى الولايات المتحدة للحصول على درجة الدكتوراه، فزت بها والحمد لله. سافرت وزوجتى، فى 31 من مارس سنة 1963، حيث بدأت الرحلة من القاهرة مرورًا بلندن وكوبنهاجن وواشنطن لتبلغ غايتها إلى مدينة لا نسينج عاصمة ولاية ميتشجان، حيث جامعة ميتشجان



تعلمت ألا أسعى خلف منصب أو مال.. إن جاء فالحمد لله • وإن لم يأت فشكر الله واجب فلو كان فيه الخير لأتى ولانسينج مدينة صغيرة، لا يزيد تعداد سكانها على 150 ألف نسمة، تقع الجامعة فى شرقها فيما يطلق عليه إيست لا نسينج. وتعتبر هذه الجامعة فى مجال الاقتصاد، ضمن جامعات القمة العشر فى الولايات المتحدة فى التخصص الذى ذهبت من أجله للحصول على الدكتوراه  ونظام الدراسة بها، نظام الكوارتر أى كل ثلاثة أشهر وهو غير نظام السمستر، كل نصف سنة الشائع بين الجامعات الأخرى فى الولايات المتحدة



عند وصولى، كان على أن أذهب إلى المشرف العام، الذى اختير لى خلال فترة الدراسة، وكان أستاذًا فاضلًا هو الأستاذ الدكتور لورانس ويت، وحددت معه المواد التى أدرسها كل ثلاثة شهور. ورغم أن العادة جرت على قصرها على ثلاث مواد، إلا أننى حرصت على أن أختار أربع أو خمس مواد فى بعض الفترات (ثلاثة شهور) لأتمكن من الانتهاء من الدراسة فى أسرع وقت والعودة إلى بلدى. ولذلك تجاوزت الدراسة شهور الشتاء والربيع والخريف، إلى فترة الصيف، التى غالبًا ما يترك خلالها الطلبة الجامعة للذهاب إلى الجنوب، للعمل وكسب بعض الأموال، ثم العودة بعدها ومعهم ما يعينهم على مواجهة تكاليف المعيشة ورسوم الجامعة



عند تحديد المواد التى درستها خلال السنوات اللازمة للتأهيل لإعداد رسالة الدكتوراه، طلبت من المشرف أن أُحَصل قدرًا زائدًا من مواد إضافية فى الاقتصاد والإحصاء لتساعدنى على إعداد الرسالة وتدعمنى فى تخصصى فى مجال الاقتصاد. حددت بعض المواد التى تدرس فى مستوى الكليات وليست فى المستوى فوق الجامعى، وكانت هذه المواد مشابهة لما يدرس فى كليات التجارة أو الاقتصاد والعلوم السياسية فى مصر. وكان على أن أحضر هذه المواد مع شباب أقل من سنّى بعشر سنوات تقريبًا، فهم فى أعمار تسعة عشر أو عشرين سنة وكنت فى الثلاثين





حكيت لأصدقائى فى مصر ما قيل فى أمريكا عن هزيمتنا  فنصحنى أحدهم لا تتكلم عن الحرب فـ«الأجهزة» علمت ما قلته



اكتشفت «فى جامعة ميتشجان أن مدرس الإحصاء» إسرائيلى  فشعرت بالقق وطلبت تأجيل المادة مدرس الإحصاء «إسرائيلى» وفى مادة الإحصاء كان أستاذ الإحصاء، شابًّا فى مقتبل العمر، وكان من عادة أى من الأساتذة فى الحصة الأولى قراءة الأسماء للتعرف على الطلبة، الذين لم يتجاوز عددهم فى العادة عشرين طالبًا، وقال هل اسمك اَلجنزورى بفتح الألف  أو اِلجنزورى بكسر الألف، قلت له ما الفارق، قال حين أعلم هذا أعرف من أين أتيت، إذا بدأ الجنزورى بحرف (A) مثل الراوى فأنت من العراق، أما إن بدأ بحرف (E) فأنت من مصر هذا الأمر أقلقنى وحين انتهى الدرس، سألت أحد الطلبة وهو عراقى بالصدفة  من هذا الرجل وما هى جنسيته، قال إنه إسرائيلى، ألم بى القلق لأنى تركت مصر منذ شهور وأحمل فى نفسى الخوف والقلق تجاه هذا الشأن فشئت ألا تكون البداية بالرسوب فى تلك المادة، وذهبت للمشرف العام لأخبره بتخوفى، طالبًا تأجيل المادة إلى فصل قادم مع أستاذ آخر وللأسف لم ينصحنى المشرف العام النصيحة الواجبة أو المناسبة إذ بدلا من طمأنتى، ألمح إلى أن الأمر يتعدى اختصاصه إلى عميد الكلية أو مدير الجامعة للبت فيه 




سألت الزملاء فقالوا، إن مقابلة مدير الجامعة ليست بالأمر الصعب أو العسير ذهبت إلى سكرتارية مدير الجامعة، التى حددت لى موعدًا وقابلته وشرحت له الأمر فابتسم وقال يا بنى هذا حقك أن تخاف وحقك أن تترك الجامعة وتعود لبلدك، وإن بقيت فإن الخوف سيصاحبك فى أى مكان آخر فى الولايات المتحدة، خاصة وأننى لن أمنحك توصية للالتحاق بجامعة أخرى، ولهذا فأنت بين أحد خيارين لا ثالث لهما، أن تستمر فى هذه المادة مع هذا الأستاذ، أو تعود لبلدك. لم أجد مخرجًا وامتثلت للاستمرار فى الدراسة وسهرت واستكملت هذه المادة مع ذلك الأستاذ، وعندما انتهت وأديت الامتحان، حصلت على الدرجة النهائية، فذهبت إليه كمصرى وعربى، لأشكره على حصولى على الدرجة النهائية، فابتسم قائلًا لقد أجبت إجابة ممتازة فلماذا الشكر




سارت الدراسة بعدها على نمط واحد، أذهب صباحًا إلى الجامعة ومساء إلى المكتبة التى تحتوى على قدر هائل من الكتب صرتُ والدًا فى 6 يوليو سنة 1963، استقبلنا  زوجتى وأنا  المولودة الأولى سوزان كان الأمر بالنسبة لى صعبًا لأسباب مالية حيث كنت أحصل على راتب شهرى لا يتجاوز 260 دولارًا، وكانت تكلفة السكن مائة دولار تقريبًا، والباقى يكفى بالكاد نفقات المعيشة من المأكل والملبس والعلاج  ومن ثم لم يبق شىء لمواجهة تكلفة الولادة، فذهبت إلى المشرف، الذى أشار علىَّ بأن أذهب إلى مستشفى إسبارو، وهو الأكبر فى هذا البلد، فطمأننى بمعاملتى معاملة المواطن لوجودى بصفة شرعية وهى الدراسة



ذهبنا إلى المستشفى وعلمت أن دخوله يقتصر على الزوجة دون مرافق أو زيارة  وبعد ثلاثة أيام خرجت زوجتى تاركة طفلتنا سوزى تحت الرعاية ثلاثة أسابيع  لأنها ولدت أقل من الوزن الطبيعى مما زاد التكلفة إلى نحو 820 دولارًا  وكان مبلغًا كبيرًا فى ذلك الوقت يتجاوز قدرتى ولم يكن لى دخل آخر


 طلبت إدارة المستشفى أن أسجل اسمى ورقمى الجامعى، الذى ما زلت أذكره (359106) رغم مرور أكثر من خمسة عقود، وأعطونى وزوجتى هدية للمولودة الجديدة، على أن ندفع المبلغ بالتقسيط على فترة تصل إلى عام. وخلال تلك الفترة، احتجت بالطبع إلى سيارة باعتبارها أساسية للحياة هنا، واشتريتها  ماركة فورد موديل 1958  بمبلغ زهيد نحو مائتى دولار، ولكنها توقفت بعد فترة بسبب الظروف المناخية وسقوط الثلج، مما أثر على صلاحيتها واضطرنى الأمر لشراء سيارة أخرى أذكر مثل هذه القصص التى قد تبدو بسيطة، لأبين مدى العناية بالطلبة والتيسير عليهم. وإذا كان الشىء بالشىء يذكر، فإنى أشير إلى أمر آخر وهو الندوات التى تعقدها الجامعة كل شهرين أو ثلاثة على الأكثر والتى يدعى إليها بعض المفكرين فى مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع، وعلى من يرغب من الطلبة حضور تلك الندوات تسديد دولار أو اثنين على الأكثر لإثبات الجدية والاهتمام وكنت حريصًا كل الحرص على حضورها، لأستزيد من المعرفة عن مجالات تختلف عما أدرس أو أقرأ فى المكتبة، ولأعرف كيف يفكر النخبة، وكيف يحاضرون ويتناقشون، وللتعود على التعامل كطالب مع العلماء والمفكرين الكبار. حرصت على أن أحضر كل ما نظم من ندوات، ولاحظت أن بعض الأفراد فى القاعة، يتابعون مناقشات الطلبة خاصة من تميز منهم عن غيره فى توجيه الأسئلة وطرح بعض الأفكار الجديدة


كانت تلك اللقاءات مجالا خصبًا لالتقاط من يصلح منهم كنواة لقيادة سياسية فى البرلمان، أو فى العمل الحزبى، أو فى المؤسسات الحاكمة، أو المتصلة بالأداء الاقتصادى أو الاجتماعى

أنتهت حلقتنا اليوم على وعد بلقاء متى شاء الله

جنرال بهاء الشامى


هناك تعليق واحد: