الجمعة، 8 مارس 2019

وزير الغلابه رقم 3


نعود إليكم بشوق ولهفه متابعينا الكرام لنستأنف معكم سلسلة مقالات وزير الغلابه عن مزكرات وزير الغلابه كمال الجنزورى


فى نوفمبر سنة 1963 أغتيل الرئيس جون كنيدى وكان رئيسًا محبوبًا وقد لا حظت ذلك مما شاهدته فى كل وسائل الإعلام المكتوبه والمرئية وتولى بعده نائبه ليندون جونسون، وأذكر فى يوم توليه أنه خرج ليتحدث على الهواء للصحافة، فتقدم منه أحد الشباب ليقول له أنت Dirty guy (أى أنت رجل قذر)


لم أصدق أذنى أو أتصور أن يخاطب رئيس الجمهورية بمثل هذه العبارة، وبهذا الأسلوب بعيدًا عن كل الأخلاقيات، ولكن رد الرئيس الجديد الذى لم يفقد الابتسامة قائلاً قد تكون على حق فأنا أعمل منذ فترة طويلة فى مهنة قذرة وهى مهنة السياسة، وانتهى الأمر



ذكرت من قبل أننى حضرت بعض المواد فى بداية الدراسة، وكان معى بعض الطلبة وبينهم من يصغرنى بعدة سنوات. وكانوا عادة ما يتركون الجامعة فى فصل الصيف، إلى ولايات الجنوب كولاية تكساس أو ولاية أريزونا، لمساعدة المزارعين فى جمع الفاكهة خلال فترة شهرين أو ثلاثة على الأكثر، يحصلون خلالها على نحو ألف دولار لمواجهة تكلفة الدراسة والمعيشة عند عودتهم إلى الجامعة. حفيد هنرى فورد ولكن كان عجبى أن شابًّا يدعى فورد لم يبلغ العشرين من عمره، كان من بين من درس معى مادة أو اثنتين، وعلمت أنه حفيد هنرى فورد صاحب المصانع الكبرى للسيارات، وعندما قابلته بعد العودة من تكساس سألته لماذا تذهب إلى الجنوب، فقال لأجمع بعض المال، فسألته ولماذا لا تلجأ إلى أبيك أو جدك، قال لا لابد أن أعتمد على نفسى، وفيما بعد ربما أرث ما تبقى من هذا المال الكثير، وهذا ما اتبعه أبى وجدى وجد أبى من قبل  لابد أن نعتمد على أنفسنا وبما يدعم الشخصية فى مسلكها فى دروب الحياة. قد لا نسلك أو نعتاد مثل هذا الأمر فى حياتنا الشرقية، ولكن ذلك ينشئ فردًا معتمدًا على نفسه




لا أنسى أنه فى نهاية العام الأول، رأت الحكومة المصرية أن تشكل ما يسمى بجمعية المصريين فى الولايات المتحدة، وكان المستشار الثقافى حينذاك، الدكتور مصطفى طلبة، الذى عمل وكيلًا لوزارة التعليم العالى فيما بعد، ثم رئيسًا لمنظمة البيئة التابعة لهيئة الأمم لسنوات طويلة. كنا فى تلك الفترة ما يقرب من ألف وخمسمائة مصرى، يدرسون فى الولايات المختلفة للحصول على درجة الدكتوراه وتم عن طريق الانتخاب اختيار سبعة لتمثيل كل الولايات، ورغم أنى كنت حديث العهد فى الولايات المتحدة، إذ لم يتجاوز وجودى العام، فقد فزت عن منطقة شمال شرق الولايات المتحدة، وفاز آخرون معى أذكر منهم الدكتور سعد الدين إبراهيم، والدكتور محمد عبدالهادى الذى عمل فيما بعد رئيسًا لهيئة الاستشعار عن بعد، والدكتور أسامة الباز الذى عين مستشارًا قانونيًّا لهذه الجمعية. غير أن اللقاءات كانت محدودة والهدف منها تحقيق تواصل المواطن المصرى أو الدارس المصرى فى أمريكا مع ما يدور فى مصر. عمومًا لم تعش هذه الجمعية طويلًا، ولم تحقق ما استهدفته من ربط الطلبة المصريين فى الولايات المتحدة مع ما يدور فى مصر. وأذكر أيضًا أنه بعد العام الأول، قررت إدارة الكلية تعيينى باحثًا، وأسعدنى هذا الأمر، لأنه زاد من تجربتى الدراسية، بالإضافة إلى منحى أربعمائة دولار شهريًّا، وهو مبلغ كبير فى ذلك الوقت، أى نحو مرة ونصف راتبى الشهرى




دفعت لمستشفى أمريكى تكاليف ولادة طفلتى الأولى «بالتقسيط» وميلاد طفلتى «منى» منحنى إعفاءً من الضرائب طفلتى منى وإعفاء من ضريبة الدخل ومضت الحياة بى على خير ما يرام خلال سنوات الدراسة، وحظيت بمناسبة طيبة أخرى فى 30 ديسمبر سنة 1966، إذ كان على أن أصطحب زوجتى مرة أخرى إلى مستشفى إسبارو، لنستقبل الطفلة الثانية «منى» فى اليوم التالى مباشرة، وهى طفلة جميلة كأختها سوزى  وكما حدث فى المرة الأولى كان المطلوب فقط أن أسجل رقمى فى الجامعة وأدفع بالتقسيط تكاليف المستشفى، لمدة سنة ونصف السنة أو سنتين تنخفض إلى سنة واحدة لغير الطلبة. وأذكر فى مساء يوم 31 ديسمبر، حينما علم بعض من كان معنا بالمستشفى من الأمريكان بأننا رزقنا بطفلة، قالوا إننا أسرة محظوظة، وهو ما لم يحدث عندما رزقنا بطفلتنا الأولى سوزى، وسألت لماذا هذا الترحيب الذى بلغ حد التصفيق، فتبين أن كل من يولد مساء يوم 31 ديسمبر. تتمتع أسرة الأب والأم بالإعفاء من ضريبة الدخل لمدة خمس سنوات، فابتسمت قائلًا هذا فضل من الله، وتوجهت له بالدعاء أن يوفقنى لأعود خلال شهور إلى بلدى




الدكتوراه  والبكاء بعد هذا دخلنا فى العام الأخير للدراسة بأمريكا عام 1967، وكان علىّ أن أسرع الخطى للانتهاء من المواد الباقية قبل نهاية شهر مارس من ذاك العام، وفى نفس الوقت أستعد لامتحان فى غاية الأهمية وهو الامتحان الأخير، وإن نجحت فيه تحريريًّا وشفويًّا يحق لى أن أتقدم برسالة الدكتوراه لمناقشتها والتى بدأت فى إعدادها منذ عامين. انتهيت من المواد وانتهى مارس، وبدأت أعد العدة للامتحان الذى تصادف أن تقرر فى يوم 5 يونيو 1967 وأديت الامتحان التحريرى ثم الشفوى. وأُعلنت النتيجة فى نهاية اليوم، كنا ثلاثة أجانب وأربعة أمريكان، الأجانب هم النيجيرى جون أبولو الذى أصبح وزيرًا للمالية بنيجيريا فيما بعد، وفرانسس فانجيج أرجنتينى وأصبح وزيرًا للاقتصاد فى بلده فيما بعد، وأنا الثالث. أما الأربعة فأولهم بن ديفيد إسرائيلى وتعمدت ألا أقول أجنبى بل أمريكى شأنه شأن الثلاثة الأمريكان الآخرين  وكنا فى الجامعة خلال ذلك اليوم، فأعلن نجاحى وجون أبولو وفرانسس فانجيج، ورسوب الأربعة الآخرين الإسرائيلى والأمريكان الثلاثة. سجدت لله حمدًا على بلوغى ما سعيت وجاهدت من أجله منذ خروجى من بلدى مصر وتحقق بفضل الله. عدت سريعًا إلى منزلى، لأخبر زوجتى وأحتضن طفلتىّ، لكننى فوجئت أن البعض يرقص أمام شقتى والشقة المجاورة، رقصة الدبكة الشهيرة فى بلاد الشام، ولاحظت أن بينهم بن ديفيد الإسرائيلى الذى رسب فى الامتحان تركتهم ودخلت إلى شقتى وأغلقت الباب، واستمعت إلى التليفزيون، وكان المذيع هو المعلق الشهير وولتر كرونكايت، يعلن أن الحرب بين إسرائيل والعرب بقيادة مصر، بدأت وانتهت خلال ست ساعات بهزيمة العرب ومصر وانتصار إسرائيل  وأن الجيش المصرى بدأ فى الانسحاب عشوائيًّا، تاركا سيناء.



لم أصدق، فقد تركت مصر، ولدىّ اليقين أنها قادرة على مواجهة إسرائيل، وبكيت كما لم أبكى من قبل، ولاحظت أن ابنتى سوزان وزوجتى تبكيان لما بدا علىّ من حزن. وعندما خرجت مرة أخرى وجدت الشبان الإسرائيليين مازالوا يرقصون، وابتعدت عنهم، فسمعت صوتًا يتصاعد عاليًا من بعيد حيث يقيم بعض العرب فى مساكن قريبة هو صوت أم كلثوم، فبدا لى أنه لم يبلغ علمهم بعد نتيجة الحرب. وعندما سمعت شدو أم كلثوم فى تلك اللحظة بكلمات «مصر التى فى خاطرى»، بكيت وبكيت وبقيت نحو خمس ساعات فى الخارج عدت بعدها للمنزل بعد منتصف الليل، بعدما تأكدت أن الإسرائيليين قد غادروا المنطقة  ومرت الأيام بعد ذلك حزينة كئيبة، حتى اليوم التاسع من يونيو سنة 1967، لأسمع الرئيس عبدالناصر يعلن التنحى، وبدا لى أن كل شىء ضاع، كيف يترك القائد موقعه، هل انتهى كل شىء. نسيت أمر رسالة الدكتوراه التى كان علىّ أن أقدمها خلال أسبوعين أو ثلاثة على الأكثر، وأخذت أتابع ما يقال عن مصر فى كل وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة



بعد أيام قليلة شاهدت جلسة لمجلس الأمن على الهواء، وكان مندوب مصر حينذاك لدى هيئة الأمم المتحدة السفير العظيم محمد القونى، الذى وقف يعلن حينما اتخذ المجلس قرارًا بوقف إطلاق النار أن مصر ترفضه بشكل قاطع، مما أشعرنى أننا مازلنا فى موقع يسمح لنا بالدفاع والاستمرار  غير أنه لم تمر إلا دقائق قليلة حتى دخل أحد الأفراد ليعطى السفير القونى ورقة، قرأها ولم يتمكن من الوقوف، وأعلن بصوت خفيض قبول مصر وقف إطلاق النار بدون شروط  وللأسف وقف أبا إيبان وزير الخارجية الإسرائيلية يجلجل بصوته فى القاعة عن الهزيمة للعرب والنصر لإسرائيل، ويوضح كيف انتصرت إسرائيل، وكيف انهزم العرب، ووصلت به الجرأة والمغالطة، فقال انتصر الحق وانهزم الباطل، وتحقق الأمن والأمان لإسرائيل. كان يومًا تعيسًا حزينًا لن أنساه أبدًا، فمازلت أذكر يوم 5 يونيو 1967 وسأذكره كدرس مستفاد لابد من الحرص دائمًا ألا يتكرر. كان علىّ أن أنهى إعداد الرسالة وأقدمها للمناقشة فى الأسبوع الأول من يوليو، وتم ذلك فعلا، وتمت المناقشة فى الوقت المحدد، وحصلت بحمد الله على درجة الدكتوراه، ثم بدأت أعد للعودة إلى مصر

نكتفى بهذا القدر اليوم على وعد بلقاء متى شاء الله

جنرال بهاء الشامى


هناك 3 تعليقات:

  1. لا استطيع وصف الجنزوري
    ربنا يوفقك يا جنرال

    ردحذف
  2. بالتوفيق إن شاء الله
    فى انتظار المزيد

    ردحذف